الدكتور بلال اللقيس
لم يكن السيد موسى الصدر عالما فحسب بل قضية ، حاول كل من اليمين واليسار حينها استمالته وتجيير خطابه لموازنة خصمه في حلبة الإصطراع اللبناني او التغلب عليه . تبيّن لهم لاحقا أن لموسى الصدر رؤيته يمضي بها ويجتذب الطرفان . قامت رؤيته على عمودين اثنين ، لبنان وماهيته والنظرة اليه ، والحضارة الإنسانية والمساهمة الجادة فيها .
بين هذين المرتكزين تقدّم طرح الإمام الصدر وتألّق ولو أنّه لم يُعرف جيّداً حينها ، هذه ضريبة من يسبق عصره . قوام لبنان يحتاج عناصر ثلاث وضّحها وعمل عليها بإخلاص وعزم : العدالة الاجتماعية واستنقاذ المحرومين ، التنوّع وضرورة حفظه وصونه ، معاداة "إسرائيل" ومواجهتها كمبدأ وأصل ( أضاف بعضهم مشكلة الطبقة السياسية ورجل دولة) . هذه الخطوط الثلاثة كانت همّه وسعيه سواء التقى مع الطرف الفلاني أو الفلاني من أجنحة الصراع اللبناني . العدالة الى جانب أنّها حق فردي هي حق الجماعات المكونة فلا يمكن أن تتّم بغياب اي من المكوّنات وتهميشه . التنوّع ليس لون واحد بدرجات إنّما الوان واعتراف بالآخر بخصوصياته واحترامها . أمّا كينونة لبنان فلا يمكن فكاكها عن تكوينه وماهيته النقيضة لإسرائيل . هذه الرزمة المترابطة ، شكّلت اطار رؤية الإمام الصدر للبنان وسعى لها سعياً جاداً ومارس صنوفاً مبتكرة من المواجهة والتعبير بمواجهة العدو الخارجي وحيال الظلم الداخلي والإقتتال ، فعبّر عن نموذج رجل دين أصبح وأنصح يلقي رسالته في التجربة اللبنانية والعربية ، يحمل الدين مشروع سلام وكرامة وروح مقاومة للظلم ، رجل تّحرر إلاّ من البحث عن الحق والحقيقة .
أمّا حضارياً فكان له رؤيته وفهمه فتخّوف من الانبهار بالغرب والشرق على السواء والبحث عن الذات فيهما !فدعا للبحث في ذواتنا واكتشافها أكثر وتعميق الحوار كلازمة حضارية يساعد في التصدي للظالم وبناء النموذج . فلا الغرب متقّدم ولا نحن متخّلفون !!
كان السيد موسى يرى إنسان الغرب مهّدد واستشرف مشكلة الغرب الحضارية ، لذلك كان دقيقاً جداً في كيفية التعاطي معها ومعرفة ما نأخذه منها ممّا نرفضه .
شغلته قضية استعادة الثقة وتألق الفكر والروح الديني لهذا المشرق بدل الإستغراق في المادية والاصطراع في ميدانها ورأى في التجربة اللبنانية مدخلاً لذلك ، هو لازم بين الحضارة وفاعلية الدين في الحياة العامة عوض إقصائه وإلغائه وكان هو بذاته نموذجاً حيّاً لمقولاته ، فالدين الحّق يفترض أنّه مشروع نهضة وتكامل إنساني وارتقاء اجتماعي وبحث عن المشترك والبناء عليه وتحدي امتهان الكرامة ، والطوائف بما تمّثل من ظاهرة فكرية هي نعمة وغنى ودليل حيوية ، وإن كان من خشية فهي أن تنحرف لتصير صنمية وعصبية وعبادة لإله جديد .
بعد عقود نجح خطابه في بلوغ بعض مراميه وتحقيق بعضاً من مقاصده ، ولا زال يحتاج لجّد وإرادة وهمّة وصدق لاستكمال خطابه امورًا أخر أرادها الإمام الصدر .
قد يقول قائل أصبح لبنان بلداً يؤمن به جميع بنيه ويقرون بنهائيته وهذا مهم جداً ويصّر غالبيتهم أو الإرادة العامة على وحدته ، وهذا أيضاً تطور كبير لا سيّما في ظل عواصف التقسيم وتذرير المجتمعات . وخرج عموم اهله من لحظة الوهم فصاروا اكثر جرأة في نقد النموذج الغربي "الحضاريّ" فضلا عن الإقتصادي ، وهذه بداية تحّول ولو على مستوى الفكرة . لبنان أصبح الدولة العربية الوحيدة التي تحدت العدو وانتجت تجربة قل نظيرها في عالمنا العربي اي المقاومة ، فشكل وعي أبنائه وإرادته إسهاما متميزا في نموذجه الحضاري النقيض للتبعية والحلول في في الغرب والامحاء امامه ،ففعلا صرنا ولاول مرة امام تنوع فعال في الواقع اللبناني فكريا وسياسيا وثقافيا فكان ذلك بمثابة تقدّم معتد به في السلم الحضاري ، فالشعب اللبناني أكثر أخلاقية بين الشعوب العربية في تحّمله للمسؤولية تجاه أكبر قضية فرز للمعدن الإنساني وأخطر معيار تصّنيف أي قضية فلسطين وما يحدث فيها اليوم . وهناك اقتراب من بزوغ إرادة عامة أو اتجاه عابر يتنامى لقبول دولة العدالة والحرية والمقاومة – حتّى لو كان تفسير مقاومة "إسرائيل" دفاعياً عند البعض ولم يتحّول الى استباقي . واستطاع أن يولّد فكرة تلائمه ولو مرحلياً في ظل العواصف الهائجة فحفظ ذاته وسلمه الأهلي ومنع تفسخها وانشطارها ويمكن اعتبارها ابداعاً لبنانياً صرفا لم تنجح بقية الدول الإقليمية والعربية به وهو ما يعرف بثلاثية الشعب والجيش والمقاومة كحاجة واقعية وأشبه بتفاهم ضمني أو لنقل تعايش متفاهم على كلياته . ورغم كثير المشكلات الداخلية والإنقسامات والتحدّيات لكن بقي اللبنانيون بقواهم الفاعلة والحيّة مؤمنون إيماناً فعلياً بالتنوّع وعن قناعة وليس إيماناً مرحلياً ظرفياً، ويصّرون على حقيقة استحالة أي محاولة للتغّلب على غرار التجربة الفاشلة والقاتلة لنظرية "الطائفة القائدة" . وصار غالبية اللبنانيين حذرين جداً عن الحرب الأهلية واي إقتتال داخلي رغم الإنقسامات والهواجس ولعل عبرة الحرب الاهلية مثلت بقوة امامهم ، وأنّ الحوار هو البديل الوحيد وإلاّ الجميع خاسر ولو بفوارق . كما أصبح لغالبية الطوائف والقوى إسهامها الواقعي فيه وهذا أعطاه نوعاً من مرّة الإعتدال وشيء من التوازن .
... لكن مع كل ما ذكرنا ، يبقى أمام لبنان مشواراً طويلاً نحو الدولة ، فلا زالت ثقافة الإستقلال السياسي ناقصة ولا زال المشوار الى السيادة معقّد ولم يتّفق اهله بعد على دوره ولا على هويته رغم ما ذكره الدستور انه عربي ، ولا زال الفساد ضارباً فيه ومجهداً لبنيه ومهدداً له، ولم تتحوّل ادبيات كل مكوناته الى غنى حضاري بل اخفق بعضها في ملاقاة التحول وبقي اسير الماضوية ولم يجر نقدا علميا جريئاً من داخلها لتطوير خطابها والترّقي بقضاياها نحو البعد الوطني ، ولم تلاق الطبقة السياسية تفاني اهله وعطاءاتهم بمواجهة العدو وكدهم في المهجر بل تراها تعيد إنتاج ذاتها كاداة امينة للخارج ومصالحه على حساب ثوابت لبنان واستقلاله ،فعمقت اغترابها عن مجتمعها بمفارقة تحتاج الى تأمل . أمّا الحوار فقد صار عملة قديمة رغم اعتراف العقلاء بغياب أي طريق آخر غيره ، فلا حوار في السياسة ولا حتّى في شؤونات الحياة . وليس آخراً المحرومون ، إنّهم اليوم الطائفة الأكبر الذين يُراد تفكيكهم وقتل قضيتهم ، تراهم يعاهدونك ان لن يمّلوا ولن يسأموا بذل الجهد والعمل لمقاومة الحرمان بالأساليب العقلائية والحد للبناء دولة تليق بهذا البلد ورسالته وسيكملوا العمل بوصاياك لأنّ العدالة كما السيادة لا تتجزأ ولأنّ السعي يجب ان يكون صنو القول بها . ختاماً أيّها السيّد الكبير والعلم العربي لم يريدوا بإخفائك تغييب شمسك فقط بل تغييب فكرة لبنان ، فقد تيقنوا أنّها ستفضح عجزهم .